بغداد دار السلام و المجد

سأل الإمام الشافعي يونس بن عبد الأعلى: "هل دخلت بغداد"؟ فأجابه: لا، فبادره الإمام الشافعي: "لم تر الدنيا إذن"!! ...
قيام الخلافة العباسية
كانت الخلافة العربية الإسلامية عام 132هـ على موعد مع مرحلة فاصلة في تاريخها، ففي تلك السنة تمّللعباسيين إنهاء الحكم الأموي، وإعلان قيام دولتهم، وتسلّم "أبو العباس السفاح" منصب الخلافة في مدينة "الهاشمية"، التي أعدّت لتكون العاصمة الأولى للدولة الجديدة، وظلت "الهاشمية" حاضرة الدولة، حتى تقلّد الخليفة العباسي الثاني: "أبو جعفر المنصور" مقاليد الخلافة عام 145هـ.
بناء مدينة بغداد
اعتزم المنصور إقامة عاصمة جديدة لحكمه، فلما همّ باختيار موقعها أخبر أصحابه: "أريد موضعاً ترتفق به الرعية ولا تغلو عليها فيه الأسعار، ولا تشتد فيه المؤونة، فإني أن أقمت في موضع لا يُجلب إليه من البر والبحر غلت الأسعار، واشتدت المؤونة وشقّ ذلك على الناس"، فأشار عليه بعض الحاشية "اجعلها على الصراة بين دجلة والفرات، فإذا حاربك أحد، كان النهران خنادق لمدينتك، كما أن "الميرة" تأتيك في دجلة من "ديار بكر" تارة، ومن الهند والصين والبصرة تارة أخرى، وتأتيك في الفرات من الرقة والشام، كما تجيئك من خراسان وبلاد العجم، وأنت يا أمير المؤمنين بين أنهار لا يصل عدوك إليك إلا على قنطرة أو جسر، وأنت متوسط للبصرة والكوفة، وواسط والموصل والسواد، وأنت قريب من البر والبحر والجبل".
فتأمل "المنصور" العبارة التي رسّخت عزمه على بناء المدينة الجديدة لتكون مقراً لخلافته ومعسكراً لجنده، ومكاتب لدواوينه، فقال: "لقد مررت في طريقي بموضع اجتمعت فيه هذه الصفات، فأنا راجع إليه، وبايت فيه، فإن أدركت فيه ما أريد من طيب الليل فهو موافق لما أرغب لي وللناس" فأتى موضع قرية قديمة عُرفت باسم "بغداد" وقرّر بناء عاصمة فيها.
بغداد معالم شامخة على ضفة دجلة
أحضر أبو جعفر المنصور المهندسين والحرفيين من أهل الصناعة والبناء، ومن أهل الفضل والأمانة والفقه والعدل، والعلم بالذراع والمساحة وقسمة الأرض، ووضعهم في صورة المدينة التي يعتزم إنشاءها، فأقروا بناء العاصمة في موقع بغداد القديمة لأسباب عديدة بينها:
1- موقعها الاقتصادي على طرق التجارة الرئيسية القادمة من البحر وعلى امتداد النهر.
2- أرضها الخصبة المناسبة للزراعة بفضل النهرين العظيمين.
3- مناخها الطبيعي الملائم لإقامة القصور الشامخة والحدائق الناضرة...
وما لبث المهندسون أن استدعوا ألوف المهرة من العمال والفعلة والصناع من الحفارين والنجارين والحدادين وسواهم، فأجرى عليهم الأرزاق، ثم بدئ بتنفيذ مخططات البناء التي رسمها خمسة من مشاهير المهندسين بإشراف "الحجاج بن أرطأة". كانت البداية عام 145هـ، حيث تقرر أن تُقام المدينة على شكل دائرة محيطها (16 ألف ذراع) وقطرها (5093 ذراعاً) بهدف تخفيض كلفة بناء السور، لأن محيط المساحة المدورة يقلّ طوله عن محيط مساحة مربعة مساوية لها بنحو (11.37%).
خُطّت المدينة بالرماد أولاً، وصُنِعت على تلك الخطوط كرات من القطن، وصبّ عليها النفط وأشعِلت لتبرز بشكل واضح، ثم بدئ بحفر الأساسات وضرب اللبن، وشوي الآجر، ووضع أبو جعفر المنصور بنفسه أول لبنة في البناء وهو يردد: "بسم الله والحمد لله والأرض لله يورّثها لمن يشاء من عباده والعاقبة للمتقين".
ارتفعت معالم المدينة على ضفة نهر دجلة وهي تمثل حالة من حالات التتابع المدني، فهي على مبعدة 90كم من مدينة "بابل" القديمة، وعلى بعد كيلو مترات من طيسفون -المدائن- عاصمة الفرس الأولى.
بغداد.. دار السلام
عُرفت المدينة الجديدة بعدة أسماء فهي: المدينة المدوّرة، ومدينة المنصور، والزوراء، ودار السلام، تفاؤلاً بالسلامة في الحياة والنجاة من الأعداء، لكن غلب اسم "بغداد" على الألسنة، وبقي خالداً على مر العصور.
وقد قُسمت المدينة إلى أربعة أقسام رئيسية، بشوارع عريضة، امتدّت لتصل بين كل بابين من أبواب المدينة الأربعة، واحتوى كل قسم على عدة شوارع فرعية ودروب ضيقة.
وكانت الأقسام تلتقي عند مركز المدينة (الدائرة).. أحيطت المدينة بخندق واسع، وأسوار ضخمة، فتحت فيها أربعة أبواب متقابلة: الباب الشرقي "باب خراسان" يقابله غرباً "باب الكوفة" وفي الجنوب "باب البصرة" والباب الشمالي هو "باب الشام".

232 2.jpg

بغداد من الداخل
بغداد من الداخل
وكانت في وسط المدينة رحبة مدورة واسعة في وسطها قصر الخليفة الذي بناه بالآجر، وسماه قصر الذهب، وسمى بابه باب الذهب، وأنشأ مسجداً واسعاً ملاصقاً له، وكانت مساحة القصر أربعمائة ذراع في أربعمائة، ومساحة المسجد مائتين في مائتين، وكان في صدر القصر إيوان طوله ثلاثون ذراعاً على سطح الإيوان مجلس مثله وفوق المجلس القبة الخضراء وكان على رأسها تمثال فارس بيده رمح فإذا دار التمثال استقبل بعض الجهات ومد رمحه نحوها.
بلغ ارتفاع الإيوان إلى أول عقد القبة عشرين ذراعاً وارتفاع المجلس والقبة الخضراء ستين ذراعاً، سقطت تلك القبة سنة 329هـ في يوم مطير فيه ريح، أما المسجد فقد أنشأه المنصور من اللبن والطين وجعل أروقته أسطوانات من الخشب، وكانت كل أسطوانة منها قطعتين معقبتين بالعقب والغراء وحبّات الحديد إلا خمس أسطوانات كانت عند منارة الجامع.
في بغداد دوائر الدولة الجديدة
لم يكن بالرحبة الوسطى التي فيها قصر المنصور ومسجده بناء ولا دار ولا مسكن لأحد إلا داراً من جهة باب الشام، وسقيفة كبيرة ممتدة على أعمدة مبنية بالآجر والجص، كان صاحب الشرطة يجلس في الدار وصاحب الحرس يقيم في السقيفة، وكان حول الرحبة منازل على خط دائرة وهي منازل أولاد المنصور والأصاغر ومنازل القريبين من خدمته، وبيت المال وخزانة السلاح وديوان الخراج وديوان الخاتم وديوان الجند وديوان الحوائج وديوان الأختام، وديوان النفقات وديوان الصدقات.
وجلب المنصور لأبواب مدينته رتاجات من حديد، لا يغلق الرتاج الواحد منها ولا يفتحه إلا جماعة من الرجال لضخامته، فقد كان الفارس يدخل منه بالعلم وبالرمح الطويل من غير أن يميل الأول بالعلم ولا أن يثني الثاني رمحه، وجعل للأبواب الأربعة دهاليز أربعة عظيمة.
قصر الخلد.. وضاحية الكرخ
أقطَعَ المنصور قواده كثيراً من القطائع داخلها، ومن أجل ذلك نسبت دروبها إليهم، وأقطع الجند أرباضها كما أقطع أهل بيته أطرافها، وابتنى لنفسه قصراً صيفياً على دجلة وراء باب خراسان سمّاه قصر الخلد، وأجرى الماء إليها في قناتين بُطِّنتا وغطيتا بخشب الساج حتى لا تلوثهما دواب السقائين، وتعددت فيها وفي ضواحيها بعد ذلك القنوات.
ولم يسمح المنصور لرجاله أن يبنوا دورهم ملاصقة للسور الكبير أو سور الرحبة المركزية، ولهذا فقد كان يلي السور حلقة عريضة خالية من الأبنية تماماً لتكون طريقاً، وبنيت الأبنية والدور في الفصيل الذي بين السورين الكبير والداخلي واتخذت مراكز الشرطة المدينة وحراسها. وبنى الخليفة سجنه الكبير المسمى (المطبق) في الربع الجنوبي للفصيل، حيث كانت الدور بين طريق باب البصرة وطريق باب الكوفة وباسمه سُمي الشارع الذي يقع هذا السجن فيه، وسميت بعض أسماء الشوارع في الأرباع الأخرى بأسماء سكانها وحرفهم مثل السقائين وشارع المؤذن وشارع الشرطة.
أتم المنصور بناء السور والفراغ من الخندق وإحكام جميع أمر المدينة سنة تسع وأربعين ومئة، وأقبل الناس على السكن في جوارها، واتسّعت قرية الكرخ التي كانت في جنوب المدينة، وصارت تُعرف باسم محلة الكرخ، وكان يمر بالقرب منها الصراة ونهر الرخيل، واتصلت عمارة الكرخ وأسواقها بقرية سونايا التي سُميت بالعتيقة.
وكانت أسواق مدينة المنصور في الطرق الأربع داخل السور وقد حولها إلى باب الكرخ وباب الشعير، والمحول وهي السوق التي تُعرف بالكرخ، وذلك بعدما قدم عليه وفد ملك الروم فأمر أن يُطاف بهم في المدينة ثم دعاهم فقال للبطريق كيف رأيت هذه المدينة؟ قال: رأيت أمرها كاملاً إلا من خلة واحدة، قال: ما هي؟ قال: عدوك يخترقك متى شاء وأنت لا تعلم، وأخبارك مبثوثة في الآفاق لا يمكنك سترها، قال: كيف؟ قال الأسواق. فأمر المنصور حينئذ بإخراج الأسواق من المدينة إلى الكرخ وأن يبني ما بين الصراة إلى نهر عيسى ودعا المنصور بثوب واسع فحدّد فيه الأسواق كل صنف منها في موضعه، فكان لكل تجارة وتجار شوارع معلومة وصفوف في تلك الشوارع وحوانيت، وليس يختلط قوم بقوم ولا تجارة بتجارة، ولا يباع صنف مع غيره وكلّ أهل منفردون بتجارتهم.
أخذت الكرخ بالتوسع والامتداد خارج حدود نهر عيسى حتى صار حدّها الأعلى قصر وضاح خارج باب البصرة، وحدّها الأسفل سوق الثلاثاء ويقدّر طولها بفرسخين وعرضها بنحو فرسخ من ضفة دجلة شرقاً إلى قطيعة الربيعة غرباً، وتقع هذه القطيعة على يمين الآتي من طريق الكوفة بعد مروره بباب الكرخ، كما أنشئت محلات أخرى عديدة منها محلتا باب البصرة وباب الكوفة شمال الكرخ.
وأنشئت محلة الحربية في الناحية الشمالية الغربية، ومحلة الشارع في الناحية الشرقية، ومحلة باب التبن والقطيعة الزبيدية في أقصى الشمال.
الرصافة.. والجسر الكبير
ثم إن المنصور عزم على أن ينشئ محلة كبيرة في الجانب الشرقي من بغداد المدورة، وقد بدأت العمارة فيها سنة 152هـ وانتهت سنة 157هـ.
وكان يرى أن هناك ضرورة لجعل مقر ولي عهده المهدي وجيشه مفصولاً عن مقر الخلافة، ليكون مستعداً إذا اقتضت الحال لقمع كل نزاع قد ينشب بين هذا الجيش وبين جنده العرب هناك.
وكانت تُعرف هذه المحلة الجديدة باسم عسكر المهدي ثم سميت الرصافة، وأول بناء شُيد فيها هو جامع الرصافة الكبير، وكان يُعرف بجسر الرصافة أو الجسر الكبير.
وحفر المهدي نهراً يأخذ من النهروان سمّاه نهر المهدي في الجانب الشرقي، وأقطع المنصور إخوته وقواده، وقُسّمت القطائع، وتنافس الناس في النزول على المهدي لمحبتهم له ولاتساعه عليهم بالأموال والعطايا، لأن جانب المهدي الرصافة كان أوسع الجانبين أرضاً ولأن الناس سبقوا إلى الجانب الغربي، وهو جزيرة بين دجلة والفرات فبنوا فيه، وصارت فيه الأسواق والتجارات فلما ابتدئ البناء في الجانب الشرقي الكرخ امتنع على من أراد سعة البناء.
وصارت الرصافة وحدها بقدر مدينة المنصور لأن من المُقطعين من جعلوا قطائعهم في الجانب الغربي بساتين وأسواقاً ومستغلات وغير ذلك من المرافق، وكانت بين القطائع منازل الجند وسائر الناس من الملاكين والتجار وكان في الجانب الشرقي أربعة آلاف درب وسكة.
بغداد الزاهرة.. مركز ثقافي وأسواق عامرة
ما لبثت بغداد أن أصبحت أهم مدينة؛ إذ بُنيت فيها مئات المساجد وعشرات القصور الفخمة، وتكاثر بها التجّار والصنّاع، وكان لكل طائفة منهم شارع خاص أو سوق خاصة، فهذا سوق العطارين وذاك سوق البزازين وهذا سوق الصرافين وهنا سوق الوراقين، وهذا سوق بائعي الحلي والطرف المعدنية، وذاك سوق الرقيق المكتظ بالجواري من كل جنس، وأمّها المغنون والمغنيات، ونزلها الأدباء والعلماء من كل صنف وعلى كل لون، فزخرت بالحياة تزينها البساتين الملحقة بالدور والقصور والمتنزهات وميادين اللعب بالصولجان وغيره، كما تزينها القوارب التي كانت تتلألأ على صفحات دجلة بأشكالها المتنوعة من طيارات وسميريات وحديديات وحرّاقات وزلالات وجعفريات.
وفي أواخر القرن الثالث الهجري كانت بغداد تشبه حلقة يحيط بها سور المستعين من كل أطرافها، ثم أخذ العمران ينتشر في الجانب الشرقي منها فامتد جنوب السور على ضفة دجلة إلى مسافة بعيدة حيث أُقيمت قصور الخلفاء والبساتين الملحقة بها، وكان أهمها قصر التاج الذي أسسه المعتضد وأتمّ بناءه المكتفي، ودار الشجرة والدار المثمنة والدار المربّعة ودار الوزارة والدواوين وغيرها، وصارت هذه القصور وملحقاتها تُعرف باسم دار الخلافة واتخذها خلفاء بني العباس مقراً لحكمهم. وقد سوّرت هذه الدار بسور على هيئة نصف دائرة قال عنها ابن الجوزي:
"وهي بنفسها بلد وكان للسور الذي يطوّقها تسعة أبواب رئيسية أشهرها باب الغربة وباب الخاصة وباب النوبي وباب العامة وباب المراتب".
واتصلت العمارات حول دار الخلافة وأصبح سوق الثلاثاء أعظم سوق في الجانب الشرقي، فأنشئت على جانبيه المحلات والدروب وأضحت محلات بغداد الشرقية ثلاث: الرصافة والشماسية والمخرم.
ومن المحلات الأخرى محلة مشهد الإمام أبي حنيفة وفي جوارها محلة سوق يحيى، وهناك محلة جامع السلطان وجوار محلة الشماسية نشأت محلة الخضيرية، ومحلة الشيخ والطفرية ومحلة أخرى كبيرة يُقال لها قراج ظفر، والترجمانية وهي من محلات بغداد المتصلة، وكان يروي الجانب الغربي من بغداد نهر واسع يُسمى نهر عيسى العظيم، يتفرّع من الجانب الأيسر لنهر الفرات شمال الفلوجة ويصب في دجلة جنوب بغداد.
بغداد.. عاصمة الفكر والثقافة
مع انتقال الخليفة المنصور إلى بغداد مع أهله وحاشيته وحرسه وجنده، تقاطر عليها الناس من سائر الأمصار، فازداد عدد سكانها، وتنوعت أصولهم، فمنهم من قدِم من البصرة والكوفة و واسط، ومنهم من جاء من بلاد الشرق، ولأنها أقيمت وسط مراكز حضارات قديمة عرفت الرقي والمدنية كالبابلية والآشورية والساسانية، وساعدها قربها من مراكز الحركة الفكرية آنذاك على خلق بيئة جديدة متنوعة المعارف، متزاوجة الثقافات، منفتحة الذهن، كما ساعد الازدهار الاقتصادي في ازدهار حضاري علمي لم يتوفر لغيرها من المدن في ذلك العصر.
تقوم ثغورها على حدود الإمبراطورية الرومانية.. البيزنطية، ومنها تبدأ فتوحها، تأتيها الضرائب والخراج من جهات الأرض الأربع، وإليها تسير القوافل، ومنها تنطلق الحملات العسكرية والبعثات الدبلوماسية، وهكذا غدت في زمن قياسي قصير أهم المراكز الاقتصادية في العالم.
نشطت أسواقها، وتنوعت مهنها، وزيّنها الخلفاء العباسيون، إلى جانب العمران الباذخ برعاية الآداب والعلوم والفنون، فازدهرت مدارسها، وتفوقت علومها، وصدحت قصورها بالموسيقى والغناء، وتقاطر عليها الشعراء والعلماء وطلاب المعرفة، وكثر الاجتهاد في أروقة معاهدها ومساجدها، إلى جانب تشجيع نشر علوم القرآن والفقه، وانصرف الناس تدريجياً إلى أمور الفلسفة، فساد الجدل الذي أسهم في تنشيط حركة التأليف والترجمة، فامتزجت الثقافات، وظهرت خلاصات فلسفية وعلمية، ازدهرت بها الثقافة العالمية وتقدمت الحضارة الإنسانية.
بغداد منارة المعارف والعلوم
قدِم إليها نخبة العلماء والمفكرين، جاء جابر بن حيان، وفيها أقام معمل تجاربه ودرس علومه، عاصر المهدي والهاديوقرّبه الرشيد، ولجيوشها استخلص حجر الكي "نترات الفضة" لكي الجروح، وهو مكتشف ماء الذهب والفضة وعنصر البوتاس وملح النشادر، ومركّب كبريتيد الزئبق، وحامض الكبريتيك، وفي "بغداد" صاغ نظريته عن الاتحاد الكيميائي (عن أصول المعادن) التي سبق بها نظرية "دالتون" بألف عام.
وفي مدرسة الحكمة تلقّى الخوارزمي علوم الرياضيات، قدّره الرشيد وعهد إليه المأمون بأمانة مكتبة القصر، وفيها وضع أشهر مؤلفاته عن "الإسطرلاب" و"المزولة"، و"علم الجبر" وفيها اكتشف الصفر عن الرياضيات الهندية.
وفي بغداد أخذ الفارابي المنطق عن "أبي بشر متى بن يونس"، وعن "أبي بكر السرّاج" قواعد الصرف والنحو، وإلى العاصمة الزاهرة وفد عالم البصريات ابن الهيثم، وفيها ألف الواقدي كتابه "المغازي"، وألّف ابن جرير الطبري تفسيره الشهير، وقد ذكر العلامة "ابن خلدون" في مقدمته في بحث الأدب: "أن أصول هذا الفن وأركانه أربعةُ كتب ألّفها البغداديون وهي: "أدب الكاتب" لابن قتيبة، والكامل للمبرّد، و"البيان والتبيين" للجاحظ، و"النوادر" لأبي علي القالي"، أما شعراؤها فمنهم: الشريف الرضي، وأبو تمام الطائي، والبحتري، وابن الرومي، وبشار بن برد، وأبو نواس وغيرهم.
ومن "بغداد" انطلق (المسعودي) إلى رحلاته الجغرافية التي شملت الهند وبحر قزوين والبحر الأحمر والمحيط الأطلسي، ووصل إليها من "نيسابور" الإمام "أبو حامد الغزالي" في عهد الخليفة "المقتدي بالله" فعمل في "المدرسة النظامية" لمدة أربع سنوات، وألّف فيها بعض كتبه ثم خرج ليطوف في عدد من عواصم العالم الإسلامي.
بغداد .. بدائع الصناعة وتحف الفن، ومنبر التنوير
بعد أن بدأت بغداد مدينة للجند، غدت مقراً لقصور رحيبة الأرجاء تُحيط بها الحدائق الغنّاء، وتزغرد جدرانها بفنون الهندسة المعمارية، وتشامخت قبابها، وازدهرت أسواقها الحافلة بأنواع السلع والمنتجات بأزهى أنسجتها، وتطريزها لتغدو تحفة الإبداع الفني، وعلى أبواب القصور تجمع الشعراء والمنشدون، وفي أروقتها كثرت الجواري والقيان متزودات بألوان العلوم والفنون والآداب، ولما ضاقت مساجدها بطلاب العلم تمّ إنشاء عديد من المدارس الراقية، التي كانت في واقع الأمر جامعات تخرّج فيها ألوف الطلاب من أصقاع الخلافة.
لقد أنشأ الخليفة هارون الرشيد بيت الحكمة، في مبنى كبير ضم قاعات واسعة، اشتملت على خزائن الكتب، وفي كل منها مجموعات من الأسفار العلمية الخاصة بعلم من العلوم، وعيّن "الرشيد" فيها المترجمين والوارقين والمجلدين عُرف من بينهم "الفضل بن سهل بن نوبخت" الذي أشرف على النقل من الفارسية، و"يوحنا بن ماسويه" الذي تولّى ترجمة مؤلفات الطب القديمة التي جُلبت من أنقرة، وعمورية والقسطنطينية وحيثما توفرت في الغرب.
كذلك شيّدت في عهد المستنصر بالله ببغداد أول جامعة إسلامية على ضفة الدجلة في الجانب الشرقي من المدينة، وقد تكونت المستنصرية من أقسام عديدة لتدريس العلوم المختلفة إلى جانب الفقه على المذاهب الأربعة، وهيأ لها الخليفة كل مستلزماتها من المدرسين والإداريين والمشرفين المختصين، واحتوت مكتبتها على ثمانين ألف مجلد، وضمّت مخزناً للأدوية، وإيواناً للطب، وعلى مدخلها أُقيمت الساعة العجيبة لتُرشد الناس إلى أوقات الصلاة، وكانت شاهداً على مدى التقدّم العلمي الذي بلغته المدينة في ذلك العهد، كذلك أُنشئت "المدرسة النظامية" ومدرسة "أبي حنيفة"، كما أُقيمت البيمارستانات، فنهضت بشؤون الطبابة والعلاج في بيمارستان الطبيب "ابن بختيشوع" وبيمارستان "الصاعدي" و"الحربية" و"السيدة" و"المقتدري" وغيرها.
ويُسجّل التاريخ بتقدير وفخار للخليفة هارون الرشيد تكريمه للعلم والعلماء والشعراء، وحرصه على طلب معارف العالم القديم، إلى حد كان معه يقوم بفداء الأسرى من الأعداء مقابل الكتب، وحينما حقق النصر على الروم في عدد من المواجهات قايض الأسرى بنسخ من التآليف اليونانية في مكتبة الإمبراطورية، وأما الخليفة المأمون فقد نافس أباه في تقدير العلوم، كان مؤمناً بدور العقل في صنع التقدم والحضارة، فعقدت المناظرات العلمية في قصره بين العلماء، كما أقام في بغداد مرصداً فلكياً لمعرفة محيط الأرض ومساحتها وتقدير خطوط الطول والعرض بشكل أدق مما حققه بطليموس، ونشطت في العاصمة الزاهرة أكبر حركة للترجمة والتأليف، وكان من أكابر مترجميها "يوحنا بن ماسوية" و"الحجاج بن مطر" و"حنين بن إسحق" و"ابن نوبخت" وتمت ترجمة المؤلفات اليونانية والفارسية والسريانية في مختلف مجالات العلم.
ونشط التأليف العلمي في الفلك، وتم صنع الساعات الدقاقة والمائية، وبلغ الاهتمام بالرياضيات وعلم الجبر والهندسة الأوج، وصححت أخطاء النظريات القديمة، وألّفت النظريات الجديدة التي سبقت بحوث ديكارت وبيكون بمئات السنين، ومكّنت دراسات العلماء المسلمين في الهندسة من حفر الأقنية والجداول، كما تألقت بحوث الكيمياء والميكانيك والبصريات وعلم النبات والحيوان.
بغداد في براثن الهمجية
امتدّ الازدهار الحضاري في بغداد إلى ميادين الزراعة والتجارة والعمران.. لقد كانت بغداد بحق جوهرة العالم الإسلامي ومنارة الرُّقي والتقدم، وظلت ترفع شعلة الحضارة الإنسانية طوال قرون، ثمّ بدأت شمسها تميل إلى الغروب بسبب الأوبئة الفتّاكة التي اجتاحتها، والفتن والثورات التي تكرّرت في العهود المتأخرة حيث استبدّ قادة الجيوش بأمور الخلافة، فتدهورت مكانة الدولة وتضاءل مركز الخلافة، فقُطعت طرق القوافل وكسدت التجارة وانكفأت الزراعة بفعل الفوضى والتسلّط، ودب الصراع بين فصائل الجند في العهدين البويهي والسلجوقي.
بغداد بين سقوطين .. التتار والأمريكان
ورغم إنه في فترة من التاريخ نهضت بغداد من كبوتها في عهد المستضيء عام 575هـ، إلا أن المصائب تكاثرت على العاصمة وبالذات في عهد المستعصم بالله (640هـ) الذي باغتته جحافل الغزاة المغول بقيادة "هولاكو" الذي أعمل سيف بطشه في بغداد مدينة الحضارة فدمّر كنوزها المعمارية، ومراكزها العلمية، ومكتباتها النفيسة، ولقي خليفة المسلمين "المستعصم" مصرعه على يد الغازي الهمجي، ووقعت بغداد في براثن حصار محكم من جهاتها الأربع: المغول والترك من وسط آسيا، الجنود من جورجيا، والمهندسون الصينيون المسخرون من الحكام المغول... وكان السقوط المروّع في فبراير سنة 656هـ، وخيّم الظلام على "دار السلام" كما لفّ السواد نهر دجلة، بعد مجزرة الكتب الثمينة التي رُميت في الماء، واختلط الماء بالدم والحبر في لحظة مظلمة وفاجعة من تاريخ العرب في وطنهم الكبير.
وتوالت المصائب على بغداد، حين عاود "تيمورلنك" غزوها عدة مرات، وأباح لجنوده نهب خيراتها، وما انتهى ذلك الكابوس حتى وقعت تحت سيطرة الشاه إسماعيل الصفوي في عام 914هـ وترددت بغداد بعدها بين حكم الصفويينوالأتراك العثمانيين غير مرة، قبل أن تغدو ولاية عثمانية بدءاً من عام 1683م. وظلت كذلك حتى الاحتلال الانجليزي عام 1920م، وحين تحررت من نير الحكم الأجنبي أصبحت العاصمة مرتعاً للصراعات الداخلية، وللظلم والفساد والتمرّد، وعدّت بعدما اقتحمتها جيوش الغزاة الأمريكيين عام 2003م، أكثر بقاع الدنيا خطورة، وأبعدها عن الاستقرار.
لكن المدينة الخالدة التي كتبت في سجل الزمن أمجد صفحات التمدّن والحضارة قادرة على النهوض من عثرتها، لتجدّد ذلك الإرث العريق الذي أنار في العالم طوال قرون، وما تزال شواهده الراقية حاضرة ومتألّقة على مدار الأيام.

المصادر والمراجع:
- بغداد – مجموعة من المؤرخين- مجلة المورد- عدد خاص- رقم 4، بغداد 1979م.
- بغداد مدينة السلام- ابن الفقيه الهمداني- د. صالح أحمد العلي- دار الطليعة - بغداد 1977م.
- بغداد مدينة المنصور المدورة - د. طاهر مظفر العميد- المكتبة الأهلية- بغداد 1967م.
- حضارة العرب- غوستاف لوبون- ترجمة عادل زعيتر (فصل العرب في بغداد) ص171.
- بغداد - د. أحمد سوسة، د. مصطفى جواد - مطبعة رمزي- 1969م.
- مدينة السلام، بغداد- ليلى البسام- مجلة الشاهد 127- آذار 1969م.
- بغداد، دار السلام - عصام بشير- مجلة المنبر- بيروت 62 - نيسان 1991م.

Sharing Widget bychamelcool

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق


إذا لم أكن متصلا فاترك لي رسالة

جميع الحقوق محفوظة لمدونة عبد الرحمن الأمسلاني ©2012-2013 | ، نقل بدون تصريح ممنوع . راسلنا| انضم إلى فريق التدوين